تأمّل اليوم : /زيارة العذراء مريم لأليصابات وإعلان سر التجسد والحضور المسيحي في الشأن العام/



[ زيارة العذراء مريم لأليصابات وإعلان سر التجسد والحضور المسيحي في الشأن العام ] 


ينفرد إنجيل لوقا بذكر حادثة الزيارة، حيث يقول :

"وفي تِلْكَ الأَيَّام، قَامَتْ مَرْيَمُ وَذَهَبَتْ مُسْرِعَةً إلى الجَبَل، إلى مَدِينَةٍ في يَهُوذَا. ودَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا، وسَلَّمَتْ عَلَى أليصابات. ولَمَّا سَمِعَتْ أليصابات سَلامَ مَرْيَم، ارْتَكَضَ الـجَنِينُ في بَطْنِها، وَامْتَلأَتْ مِنَ الرُّوحِ القُدُس. فَهَتَفَتْ بِأَعْلَى صَوتِها وقَالَتْ: "مُبارَكَةٌ أَنْتِ في النِّسَاء، وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! مِنْ أَيْنَ لي هذَا، أَنْ تَأْتِيَ إِليَّ أُمُّ ربِّي؟ فَهَا مُنْذُ وَقَعَ صَوْتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ، ارْتَكَضَ الجَنِينُ ابْتِهَاجًا في بَطْنِي! فَطُوبَى لِلَّتي آمَنَتْ أَنَّهُ سَيَتِمُّ ما قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبّ!" فقالَتْ مَرْيَم: "تُعَظِّمُ نَفسِيَ الرَّبّ، وتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظرَ إلى تَواضُعِ أَمَتِهِ. فَهَا مُنْذُ الآنَ تُطَوِّبُنِي جَمِيعُ الأَجْيَال، لأَنَّ القَدِيرَ صَنَعَ بي عَظَائِم، واسْمُهُ قُدُّوس، ورَحْمَتُهُ إلى أَجْيَالٍ وأَجْيَالٍ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. صَنَعَ عِزًّا بِسَاعِدِهِ، وشَتَّتَ الـمُتَكبِّرينَ بأَفْكَارِ قُلُوبِهِم. أنزلَ المُقْتَدِرينَ عنِ العُرُوش، ورَفَعَ المُتَواضِعِين. أشْبَعَ الجِيَاعَ خَيْرَاتٍ، وصَرَفَ الأَغْنِياءَ فَارِغِين. عَضَدَ إِسْرائِيلَ فَتَاهُ ذَاكِرًا رَحْمَتَهُ، لإِبْراهِيمَ ونَسْلِهِ إلى الأَبَد، كمَا كلَّمَ آبَاءَنا. ومَكَثَتْ مَرْيَمُ عِندَ أليصابات نَحْوَ ثَلاثَةِ أَشْهُر، ثُمَّ عَادَتْ إلى بَيتِهَا."

(لوقا ١ : ٣٩-٤٥).

تعتبر زيارة العذراء إلى أليصابات من المحطات الهامة في أحداث الميلاد، وقد إكتسبت الآيات السابقة أهمية خاصة في المسيحية وفي كتابات آباء الكنيسة فهي تشير إلى إكرام خاص للعذراء وتشير أيضًا اللقاء الأول بين يسوع ويوحنا المعمدان وكلاهما في الحشا.

وقد أخذت الكنيسة عبارة أليصابات مع عبارة الملاك جبرائيل لدى البشارة لتكوين الصلاة الأشهر للعذراء في المسيحية وهي السلام الملائكي.

ووفقا للتقليد الكنسي فإن المدينة التي تمت فيها الزيارة هي عين كارم اليوم.

وعين كارم قرية ريفية فلسطينية وادعة، تقع في سلسلة جبال يهوذا من الجهة الغربية لمدينة القدس، لها تاريخ عريق بأقله يعود إلى ما يذكر في الإنجيل عن ميلاد يوحنا المعمدان وذلك إلى القرن الأول الميلادي.

لكن الحفريات الأثرية في المكان أثبتت أنه كان مأهولاً منذ الألف الأول قبل الميلاد.

وأثبتت الحفريات الأثرية كذلك, عدم إنقطاع الوجود السكاني فيها حتى يومنا هذا.

ويوجد في عين كارم عدة كنائس من أهمها كنيسة الزيارة وكنيسة يوحنا المعمدان, مكان لقاء السيدة العذراء بخالتها اليصابات على سفح جبل مشرف على نبع مريم.

إن تفاعل الجنينين يسوع ويوحنا في بطن مريم وأليصابات، وحلول الروح القدس في بيت زكريا، يشكلان بدء الزمن المسيحاني، زمن الخلاص، وبداية ملكوت الله على الارض.

فمنذ ذاك اللقاء البشري بدأت تعمل القوة الفادية النابعة من حضور إبن الله بين البشر.

أليصابات عاينت زيارة مريم، والجنين يوحنا السابق عاين مجيء المخلص، فتحرّك له في بطن أمه.



المحبة تملأ قلب الصبية الصغيرة مريم :

هذه الزيارة تحمل بطياتها الكثير من الإعلانات الإلهيّة والفضائل المريمية حيث يقول النص أن مريم حين أخبرها الملاك جبرائيل بالحبل الإلهيّ قامت مسرعة وذهبت إلى جبال اليهودية قاطعة عشرات الكيلومترات سيراً على الأقدام لتزور أليصابات العجوز التي أنعم الله عليها بأن تحبل بيوحنا الذي سوف يصبح يوحنا المعمدان.

إن عبارة "قامت مسرعة " تشير إلى المحبة الكبيرة التي تملأ قلب الصبية الصغيرة مريم التي تحمل في بطنها حامل البراية.

إنه الروح الذي يحرك مشاعر الروحيين فيستجيبوا لإلهاماته, إنها المحبة التي تحرك وتلهب القلب فيحرك الجسد ليقوم بأعمال ملؤها المحبة والرحمة.

إنها مريم التي دفعها حبها وفرحها بحبل أليصابات فقامت مسرعة لتشاركها الفرحة وتساعدها وتقف إلى جانبها في زمن حملها.

كم علينا أن نتعلم نحن أيضاً من مريم كيف نحب وكيف نجسدّ هذا الحب بالعمل الصادق.

إن فعل عمل الروح القدوس بمريم هو إيذانا ببدء مرحلة جديدة من مراحل الحياة البشرية على الأرض، حياة بالروح وفقا لأسس وقواعد ملكوت الله التي أساسها المحبة.


بقوة الروح تعترف اليصابات بتجسد الكلمة :

أصبحت أليصابات بهذا اللقاء ثالث إنسان ، بعد مريم العذراء ويوحنا الجنين، يُعلن لها وتعترف بتجسد إبن الله من مريم العذراء، إذ قالت :

"من أين لي هذا أن تأتي أم ربيّ إليّ".

أليصابات إستحقت بصبرها وإيمانها وبرارتها أن تكون أم ليوحنا وأن يُعلن لها بعد مريم السر الإلهيّ.

فبينما كان العالم كله يجهل كل شيء عن البشارة للقديسة مريم، إذ بأليصابات تعلن أمومة مريم لربها، بالرغم من عدم وجود أية ظاهرة لهذا الحدث الإلهيّ.

والأمر المدهش أن شهادة أليصابات بأمومة العذراء لربها تمت بمجرد إصغاء أليصابات لسلام مريم.

وكان هذا بسبب وجود الله المتجسد في أحشاء مريم فهو الذي أعطاها نعمة في كلامها.

فبقول أليصابات "من أين لي" يعني أنها فرصة عظيمة لي لا أستحقها، أن تأتي أم ربي إليَّ.

أليصابات تنطق بالروح، وإلا فكيف عرفت أن حركة الجنين في بطنها علامة إبتهاجه، وكيف عرفت بحمل العذراء ومن هو الذي في بطنها.



الجنين يوحنا يستقبل بشرى التجسد :

أما يوحنا الذي تقدَّس وتكرَّس وهو في بطن أُمه، فقد إلتقط البُشرَى وفرح بها حتى أنه إرتكض في أحشاء أليصابات (إرجع إلى لو ١: ٤٤).

وبسبب هذا الحدث يُطلق التقليد على يوحنا المعمدان لقب نبي الفرح، لأنه أول شخص - بعد العذراء - إستقبل البشارة المُفرحة.

ويوحنا المعمدان يعرف رسالته حق المعرفة، فهو من بطن أُمه يعي تماماً أن فرحه هو للمسيح وفي المسيح، ولهذا فهو نفسه يقول بعد ذلك بثلاثين عاماً :

«مَن له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فَرَحاً من أجل صوت العريس. إذاً فرحي هذا قد كَمَلَ»

(يو ٣: ٢٩).

فلقد ذاق يوحنا المعمدان طعم الفرح الحقيقي وهو ما يزال في بطن أُمه.

لذلك فهو لم يتوانَ بل بذل حياته من أجل أن يصل الناس إلى سر هذا الفرح، إلى التوبة وملء العلاقة مع الله :

«وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه... إصنعوا أثماراً تليق بالتوبة... والآن قد وُضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطَع وتُلقَى في النار»

(لو ٣: ٧-٩).

لذلك فيمكن القول إن العذراء مريم ويوحنا المعمدان كانا أول شاهدَيْن على العهد الجديد :

مريم بإعتبارها أُمّاً لهذا العهد، ويوحنا المعمدان بوصفه المنادِي والمبشِّر بقدومه.

والإثنان أيضاً كانا أول من أدرك قدوم ملء الزمان، لذلك فهما أول مَن سبَّح لقدومه :

مريم في تسبحتها «تعظِّم نفسي»، ويوحنا سبَّح إبتهاجاً وإرتكض وهو ما يزال في بطن أُمه.


الحضور المسيحي في الشأن العام :

زيارة مريم لأليصابات وما نتج عنها من ثمار، هي نموذج للحضور المسيحي الفاعل في الشأن العام.

المسيحي الذي يتعاطى هذا الشأن، في مختلف القطاعات الإقتصادية والإجتماعية والتشريعية والقضائية والسياسية والإدارية، مدعو ليستلهم مشيئة الله وتصميمه الخلاصي، لأنّ الله وضع للعالم نظاماً ليعيش الناس والشعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعوا شؤون مدينة الأرض وينعموا بالخير والعدل.

علّم الرب يسوع أنّ السلطة خدمة وبذل للذات في سبيل الجميع، وأنها تفقد جوهرها إذا أصبحت تسلّطاً (مر ٤٥:١٠).

وعلّمت الكنيسة أنّ السياسة فن شريف لخدمة الإنسان والخير العام.



صلاة أخيرة :

نطلب من الله أبينا كما علمنا يسوع في الصلاة الربية :

"ليأت ملكوتك"

فنقول : أيّها الإله الأزليّ القدير، الذي أوحيت إلى القدّيسة مريم البتول، وهي حامل بإبنك المتجسّد، أن تخرج إلى زيارة أليصابات وهي حامل بيوحنا وتخدمها، إجعلنا ننقاد إلى صوت الرّوح القدس، فتعظمك نفوسنا وتبتهج بك أرواحنا مع البتول أمّنا للأبد.

أيها الرب يسوع، لقد ملأت بيت أليصابات وشخصها بروحك القدوس، من خلال زيارة مريم أمك لأم يوحنا، وأنتما جنينان.

نسألك أن تسكن في قلوبنا بواسطة كلمتك وجسدك القرباني، لنمتلىء من الروح القدس الذي يقودنا إلى معرفة الحقيقة التي أوحيتها عن الله والإنسان والتاريخ.

ويا مريم أمّنا، زوري بيوتنا ومجتمعنا وإحملي إلى الله حاجاتنا.

إستمدي لنا هبة الروح القدس لكي بمواهبه السبع يستنير عقلنا بالحكمة والفهم والعلم، وتتصوّب إرادتنا بالمشورة والقوة، وتزخر قلوبنا بتقوى الله ومخافته.

فنشهد للمسيح وللإنجيل بكل مبادئه وقيمه في محيطنا، حيثما وُجدنا. آميـــــــن.

(منقول)

تعليقات